حادث اليم:-
وتمت عملية الإستعداد للسفر بفائق السرعة، وقفت الأم تنظر الي الركب وهـم يسيرون على الطريق وينزلون الوادي ثم يركبون المنحدر الى أن إختفوا عن الأنظار مع غروب شمس ذلك اليوم، وهـى تدعوا الله ان يعيد إبنهـا إليهـا سالما وقد أصبح عالما في الدين مثل جده الكبير الذي كان تقيا ورعا مشهـورا وكان يقصد بيته طلبة العلم والمعرفة من كل مكان.
واستمر الركب في السير وهـم ينزلون المنحدرات ويقطعون الوديان ويتسلقون الجبال حتى وصلوا إلى تخوم المنخفضات حيث إستقبلتهـم أشجار الدوم الباسقات الطول تتراقص و تتمايل مع نسمات الرياح كأنهـا تؤدي رقصات نساء اخواتنا التجري إحتفائا بقدومهـم.
كلما تعمقوا إلى المنخفضات كانت تزداد حرارة الشمس وتزداد معهـا لدغات البعوض التي انهكت جلودهـم حتى أصيبوا بالحمى والسعال وكانت أشدهـا على الولد الصغير حتى وصلوا مدينة كسلا – أول مدينة يشاهـدهـا في حياته، والأسرة التي حلوا عندهـا إستقبلتهم بالحفاوة والترحاب، كانوا في قمة الضيافة والكرم.
ولم يمكثوا عندهـم كثيرًا وانطلقوا منهـا إلى معسكر اللاجئين الذائع الصيت والسمعة، هـنا تتجمع المآسي والبطولات وتختصر الحكايات وتنتهـى رحلة البؤساء، أناس فقدوا كل شئ ولكنهـم حملون معهـم الكرامة الإنسانية والذكريات الجميلة، والأحلام التي لا تنتهـى، ليس هـناك عزيز وذليل بل الكل سواسية، وكلهـم مسرورون لأنهم وصلوا إلى بر الأمان ولكنهـم مهـمومون بالمصير المجهـول.
ولم يدري الولد الصغير هـل كانت مصادفة أم فعل مخطط ومدبر من المرافقين الأكبر سنًا منه أن تم عقد اللقاء مع المرشد الشيخ صالح احمد
وبعد النصائح الدينية وتناول الغداء، بدأ الشيخ كلامه عن الرحلة بعد قراءة الفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، واستهل الحديث بالقول : “بأن الطريق محفوف بالمخاطر ولكن خوض التجربة أفضل من الإنتظار في هـذا المعسكر على أمل الهـجرة أو العودة إلى الوطن اللتان لن تتحققا بسهـولة، “على الأقل في المستقبل المنظور“، وكان الكلام مقنعا دون أن يرسم لهـم الأحلام الوردية، وكان صريحا في كل ما قال، وهـو مرشد صادق فيما يقول، نحيف البنية، ذو لحية سوداء واسع العينين لا تفارق الإبتسامة الرقيقة الغير مصطنعة شفتيه اللتان تظهـران من خلالهـما أسنانه البيضاء ولا يتوقف عن المداعبة والكلام الطيب.
ولم يتطلب الأمر الكثير من الترتيبات والعناء من تحضير الشنط أو كي الملابس كما يحدث في مثل هـذه المواقف بل الذهـاب مباشرتا إلى موقف الحافلات والإنطلاق منهـا الى جهـة مدينة الحلفا السودانية، وبعد رحلة شاقة والإجراءات الروتينية التي كان يقوم بهـا الشيخ صالح بنفسه، إستطاعوا الحصول على الحجز على متن إحدي السفن المتهالكة للذهـاب إلى أسوان ومن ثمّ إلى القاهرة بالقطار كما جرت العادة منذ سنين عديدة , ليتعلموا في معاهـد وجامعات الأزهـر الشريف ولم يرتح الولد الصغير لمنظر السفينة المتهـالكة ولم يتحمس لركوب النهـر ،ولكن كان دائما يساق بإرادة الآخرين وكان معهـم في السفينة الكثير من الركاب المسافرين، بعضهـم طلاب المدارس في رحلة ترفيهية الى مدينة اسوان وبعضهـم أناس عاديون، الكل كان يغنى ويضحك ولا احد يدري ماذا كان يخفي لهـم القدر.
وعندما إستوت السفينة في عرض النهـر مع إستواء شمس ذلك اليوم في كبد السماء. سمعت فرقعة ودوي إنفجار قوي إنشطرت على أثرهـا السفينة الى اجزاء وتطايرة منهـا الألواح وغرغت الأجسام في النهـر، وعم السكون ثم عويل والصراخ، وترى من يعوم بنفسه للنجاة او يحاول الإمساك بالأجزاء المتناثرة او يمسك بالقش خوفا من الغرق …
وإلى الحلقة القادمة إن شاء الله!
عمر الشيخ إدريس