إنسحب إبراهـيم من جبهـة القتال ليلا بعد أن ترك سلاحه في الموقع ولم يضع في الحسبان لما قد يحدث، ولم يفكر قط في العواقب الوخيمة التي قد يواجهـها إن هـو قبض عليه وهـو هـارب من جبهـة القتال، ولم يكن يعلم ماتفرضه القوانين الثورية في مثل هـذه الحالات والتي قيل أن عقوبة من يفر من ميدان المعركة الإعدام رميا بالرصاص لأنه يعتبر إرتكب الخيانة العظمى في العرف العسكري. وسار الولد الصغير هـائما على وجهه ليلاً على سهـل ممتد يشق وسطه الطريق، ولا يعرف الإتجاه، المهـم هـنا الطريق الذي سار عليه الناس، في الآخر سأصل الى الهدف المنشود.
وفي منتصف الطريق في ليلة ظلماء، خرج عليه ذئب كاسر بارزا أنيابه من وسط الأحراش والأشجار، وأخذ الولد الصغير يرميه بالحجارة التي تقع في يديه ثم إهـتدى الى الحجارة البيضاء (الكوارتز) وطبق النظرية التي كان سمعهـا من خاله وهـى حك أو ضرب الحجرين ببعضهـا لتقوم بإخراج الصوت و الشرارة كأنه يعمر السلاح، وكان عدد الذئاب تجاوز العشرات بعد أن أطلق الذئب الأول نداء الإستغاثة، وسار الولد الليل كله في صحبة قافلة الذئاب إلى أن حل الصباح وانصرفوا عنه بعد أن يئسوا من الإمساك به وعادوا الى جحورهـم.
أما الولد فقد كان التعب والإرهـاق والجوع بلغ منه مبلغه وكان يسير بالطاقة المخزونة إلى أن شاهـد في الطريق إمرأة عجوز تسوق رجل كفيف، ولم يتمالك الولد نفسه وانهـار أمام السيدة التي حملته وعادت به إلى قريتهـا ولم تكن تجاوزتهـا كثيرًا. وفي بيت عشبي راح الولد في سبات عميق بعد أن أكل الطعام ليستيقظ بعدهـا على طَرقات وتحركات الجنود الذين كانوا يبحثون عن الشبان في القرية لدعوتهـم للإنضمام إلى الثوار طوعا أو كرهـا حتى يشتركوا في المعارك الحامية الوطيث التي كانت تدور رحاها في المنطقة، ولكن السيدة رفضت أن يؤخذ الولد إلا على جثتهـا وادعت إنه حفيدهـا الذي يرعاهـما هـى وزوجهـا الكفيف. وبعد عدة ساعات من مغادرتهـم القرية، زودته بالماء والمؤن وأرشدته على طريق العودة إلى قريته.
وقد أنهـكته مشقة الطريق وطول المسافة ومواقف عديدة مرعبة تعرض لهـا في طريق العودة مثل رأيته نمر نائم فوق الشجرة ودخوله حقل الألغام في الوادي الضيق لولا أن نبهه أحد الرعاة وأرشده على كيفية الخروج منه دون أن يصاب، حتى وصل إلى أمه الحنون التي لم تتوقف يوما من الدعاء له والتضرع إلى الله أن يعيده إليهـا سالما، وهـا هـو في بيتهـا واستجاب الله دعائهـا، وبعد سويعات قليلة من وصوله، حضر إلى البيت بعض الرجال الأقرباء من القرى المجاورة، وقد حضروا لتوديعها والتزود من دعائهـا قبل رحلة الذهـاب إلى مصر سيرا على الأقدام في طلب العلم كما جرت العادة منذ القدم.
طلبت منهـم الأم بإلحاح أن يأخذو إبنهـا معهـم رغم معرفتهـا مشقة الطريق وصغر عمره إلا أنهـا رأت أن يكون في صحبة هـؤلاء الرجال أفضل من أن يأخذ مرة اخرى ويرمى في أتون الحروب … وأجهـش الولد الصغير بالبكاء ولكن لا مفر من المغادرة ولا تغيير للخطة لأنهـا كانت أفضل الحلول المتوفرة في زمن الحروب والاضطرابات.
إلى اللقاء في الحلقة القادمة
إن شاء الله
عمر الشيخ إدريس