في بداية التسعينات من القرن الماضي عندما حضرت الى هـذه البلاد كنت متشبع بالمواعظ الدينية التي تلقيتهـا منذ صغري من الأهل وملتزم أكثر في ديني مع وجود متسع من الوقت لحضور الدروس الدينية والمحاضرات التنويرية التي كانت تقام في المساجد والقاعات.
ثم استقر بي الوضع بعد إستقصاء الأمور وتمحيص الأداء أن أتردد على حلقات دروس أحد الشيوخ الأفاضل الذي أعجبت بعلمه الغزير وأدائه المتميز، كان مستدير الوجه، عريض المنكبين، دسم الخلق لا تغادر الإبتسامة شفتاه، يرميك بالنظرة ثم يوزعهـا على بقية الحضور بالتساوي وهـذه الحركة لفتت إنتباهـي وكنت أحس حديثه موجه لي فقط في كل كلمة ينطق بهـا لسانه الطيب ويجيب على الأسئلة التي تدور في زهـني كأنه يقرأ أفكاري ! غبت عن حضور الدروس فترة من الزمن لا أذكر مداهـا لإنشغالي بالدراسة والعمل، الى أن أخبرني أحد الإخوة بأن الشيخ مرض ودخل المستشفى والآن أعيد إلى بيته ….
بعد تردد طويل وفّقت في أداء واجب الزيارة مع بعض الإخوة أقول: وفّقت لأننا أصبحنا مقصرين في هـذه السنّة النبوية المؤكدة بِحُجَّة الإنشغال والآن تعقدت الأمور اكثر في عصر الكورونا نرجوا الله السلامة ويرفع عنا الغمة , دخلت في غرفته ووجدته طريح الفراش منهـك القوى غير قادر على نطق كلمات الترحيب، إلاّ بالإيماء وإذا نطق بعض الكلمات كانت كلّهـا عبارة عن التسبيح والتحميد والتكبير , وزيارتنا له خففت عنه الكثير من الألآم وأنسته المعاناة كما صرح بذلك لأهـله بعد مغادرتنا له.
واختتمنا الزيارة بقولنا”قل يارب وأحسن ظنك بالله وكن على يقين أنه يسمع دعائك وسوف يستجيب لك” كلمات التشجيع نكررهـا دائما لرفع المعنويات ! رفع الشيخ سبابته إلى أعلا ووجه نظره إلى السماء … وغادرنا المكان كلٌّ يفسِّر بطريقته الحركة والنظرة .
وبعد أيام قليلة وصلني خبر وفاته ولم أستغرب الأمر لأَننِّي كنت فسّرت نظرات عينيه ووجهـه تحريك سبابته إنه سينتقل إلى الرفيق الأعلى. وأنا في طريقي إلى مكان الدفن كنت أستعيد شريط حياة أولئك الرجال الصالحين النجوم الحقيقية في سماء دنيا الناس وقد أفنو حياتهـم في الدعوة إلى الخير وإرشاد الناس لترك المعاصي والمنكرات وحثهـم بتقوى الله وعبادة الحيّ الذي لا يموت. وعندما إستوينا صفوفاً للصلاة على جنازة المرحوم,ان شاء الله فإذا بالإمام يخبرنا عن شئ نعرفه..الصلاة على الميت!
ولما قضيت الصلاة كان الناس يرددون كلمات: من قبيل أرفعو الجنازة لم يذكر أحداً إسمه الشريف أو لقبه العالي، ولم أتمالك نفسي ولحقت بالركب وحملت النعش من الطرف لبعض الخطوات إلى أن إستلم مني أحد الحضور حتى يغتنم الأجر …
وأثناء الدفن وقف الجميع على شكل حلقة ( تذكّرت حلقات دروسه العامرة ) ونحن نرمي التراب لردم الحفرة وإسدال الستار على حياة واحد منا.
والكل كان يردد الدعاء والوجوه مكفهـَرة عبوسة وقليل منهـم يعصرون الدموع من عيونهـم .. والموقف حقاً جدّ مؤثر ، ولو غصت في أعماق الأنفس لأدركت أن كلّ واحد منّا ربّما كان يعزم التوبة من المعاصي الظاهـرة والباطنة وعدم العودة إليهـا …
وقبل أن أغادر المقابر التي لابدّ أن نعود إليهـا يوماً ما ! قمت بزيارة تفقدية سريعة على قبور أناس كنت أعرفهـم ورحلوا عنا منذ عهـود بعيدة أو أيام قريبة وأسلّم عليهـم وأكرر الدعاء المأثور لهـم. وفي طريق العودة قلت ألاحظ أعمار الموتى عن طريق اللوحات الصغيرة المثبتة فوق القبور فإذا بهـم مثل الأحياء منهـم الصغير ومنهـم الكبير …
وقلت :ربّما كانت أحلام أحدهـم قبل الرحيل بأن ذلك الطيبب اللامع أو الدواء الخارق سيمدٌّ في عمره بعض الوقت ونسينا لكل اجل كتاب ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ )19 النجم . ثم تذكّرت أنهـم لقوا ربّهـم ولكن العجب كلٌّ العجب نحن الأحباء الذين نقرأ هـذه الأٓيات ولا نتَعظ.
وتلك طبيعة البشر رزقني الله وإياكم حسن الخاتمة ثمّ إنسحبت من دار الأموات وأنا أردد أبيات الشعر لسيّدنا علي بن ابي طالب كرّم الله وجهـه التي كان والدي رحمه الله برددهـا دائماً :
ما لي وقفت علي القبور مسلما قبر الحبيب فلم يرد جوابي
أحبيب ما لك لا ترد جوابنا أنسيت بعدي خلّة الاحباب
قال الحبيب و كيف لي بجوابكم و أنا رهين جنادل و تراب
أكل التراب محاسني فنسيتكم و حجبت عن أهلي و عن أترابي
فعليكم مني السلام تقطعت مني و منكم خلّة الأحباب…
وأثناء العودة كان معي الدكتور محمد سعيد إبراهيم وهـو من خيرة الرجال الذين عرفتهـم, كان معنا هـنا في لندن ثم هـاجرة الى امريكا، المهـم في الموضوع كلّه أنّه طلب مني أن أصطحبه لزيارة طبيب إنجليزي مسلم…
كان تعرّف عليه أثناء تحضيره الدراسات في جامعة لندن لأنّه سمع أنّه مريض ودخلنا في بيته القاطن في حي راقي توجد فيه كلّ معاني الراحة والجمال، وبعد أمسية طويلة من النقاش والتعليق فإذا بزوجته الفلسطينية الأصل حضرت من العمل وتطرقنا في المناقشة في أمور الدين والدنيا، فإذا به يخبرنا كيف أنّه يعكف مع المحامين والمحاكم لتحويل أملاكه إلى إسم زوجته الفلسطينية التي كانت سبباً في إسلامه وأرشدته الى طريق الحق.
والحمدلله يوجد الكثير من الأخوات المسلمات الداعيات الى الله لا نلحظه ولكن هـنا عمل دؤوب منهنّ وجزاهـنّ الله خير الجزاء عن الإسلام والمسلمين. المهم يريد زوجته الفلسطينية أن تكون وريثة أملاكه دون غيرهـا وهـو يريد تحويل ملكية العقارات والأموال السائلة في البنوك كلّهـا لتنقل إلى ملكيتهـا وسئلنا لماذا لا يكتب الوصية كما نسمع ونقرأ كثير عن ترك الأغنياء للكلاب والقطط , قال في حالة الزوجة المسلمة سيجدون فيهـا ثغرات قانونية ولذلك نعمل مع المحامين المتخصصين …
وكان سؤال مباشر مني. لِماذا كلٌّ هـذا ؟ الرجل اخبرنا أنه مصاب بمرض عضال سيقضي عليه قريباً والأطباء أخبروه بذلك وانه لن يعيش أكثر من ستة أشهـر , والعجيب أنه لم يكن يبدو عليه القلق والخوف بل الرضى والتسليم لأنّ الله الذي هـداه إلى الإسلام لن يخلف وعده وسينال من الجنة الفردوس الأعلى وكان يدعوا موقناً الإجابة ..
وسألت الدكتور مُحَمَّد سعيد أثناء عودته من أمريكا وهـو في طريقه لأداء مناسك العمرة وأخبرني أنّ الأخ المسلم الإنجليزي كان مازال حياً يرزق بعد اكثر من عشرة اعوام ولكن للأسف زوجته الفلسطينية توفّيت بعد صراع قصير مع المرض.
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر..
وجاءت علىَّ فترة في الشهـور الماضية التي خضت فيهـا التجربة بنفسي ودخلت فيهـا غرفة الإنعاش وكنت أصارع الموت والأطباء يقفون حولي ويناقشون مصيري هـل يسحبون أنبوب الأوكسجين أم أعطى فرصة أخرى واستقر رأيهـم على إعطائي فرصة ثمانية واربعون ساعة أخرى والتي تغير فيهـا كل شئ ووجدت فيهـا القوة والمناعة واعتقد دعاء الصالحين من إخواني كانت تغمرني والحمدلله رب العالمين. فاعتبروا يا أولي الألباب!
أمدّ الله في أعماركم
ورزقكم الله التوبة النصوح
عمر إدريس عمر (أبو عبد الرحمن)