في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، كانت منطقتنا تتمتع بجو معتدل في الصيف وممطر مائل للبرودة في الشتاء، وترى فيهـا السحب علقت تحت سقف السماء وينزل منهـا المطر.
وتسمع أصوات الرعود من وقت لآخر تصحبهـا ومضات البرق وثوران الحمم البركانية فوق الجبال الشاهـقات كأنهـا العاب نارية.
وتنساب الشلالات من الأعالي، وترتفع حولهـا الألوان من أطياف قوس قزح وتختلط فيهـا تغاريد الطيور مع عزف الرياح.
وكل أنواع الحيوانات البرية والمائية كانت تنتشر في الغابات الكثيفة والواحات الخضراء أو الوديان المليئة بالماء.
وإذا حان وقت الصيف المعتدل الحرارة كانت تنقشع السحب وتتكشف من ورائهـا سيقان أشعة الشمس الذهـبية والسماء الزرقاء في النهـار، أو النجوم المتلألئة التي تكاد تلامس الرؤوس في الليل.
كانت القرى والمدن تعجٌّ بالحركة التجاربة والنشاط، نتيجة الإزدهـار الإقتصادي والإستقرار السياسي، كان ذلك كله ينعكس بدوره على الرعاء الذين كانوا يمتلكون آلاف من رؤوس لأبقار والأغنام والبغال والحمير والجِمال ويجدون لهـا أراضي واسعة خضراء صالحة للرعي.
والجو العام كان عبارة عن التراضى والتسامح وإنسجام تام في النسيج الإجتماعي.
والوعي الديني كان على أشده، إذ كانت هـناك بعثات تركب البحار، أو يقطعون الصحاري، ويعودون حاملين معهـم لواء الدين، الذي نشروه بفضل الله في ربوع تلك المنطقة وما حولهـا وترى الناس يدخلون في دين الله أفواجا.
ولمع في تلك الفترة عالم من علماء الإسلام إسمه الشيخ صالح حامد أبريعة الذي تعلم العلوم الدينية في بلاد الهـند، وجدد الخطاب الديني، وتجمع حوله طلبة العلم والمعرفة.
وعرف عن ذاك الجيل بأنهـم أزالوا بعض المفاهـيم المغلوطة والشوائب الموروثة عن الدين، وركزوا رسالاتهـم على أصول الدين ومقاصد الشريعة، منطلقين من المذهـب الحنفي الذي كان الأنسب لمنطقتنا مع تدريس المقارنات مع المذاهـب الفقهـية الأخرى.
ولم يدخلوا في المواجهـات مع المخالفين وتركوا بصماتهـم على الحياة العامّة وإستحقوا الإحترام والتقدير من الجميع.
كان هـناك أيضا أعيان كبار وعلماء مصلحين بارزين في كل المناطق تتردد أسمائهـم على السنة العامة والخاصة.
وكان الناس يقصدون مجالسهـم، للإستماع إلى دروسهـم، ونصائحهم ويحلون لهـم المشاكل الإجتماعية، أو الإختلافات القبلية.
كانت أحكامهـم نافذة، وقراراتهـم مستجابة، بما كانوا يتمتعون به من توقير وإحترام وقبول لدى الكثير من العامة، وبما كانوا يمتلكونه أيضا من فهـم ديني عميق ومواهـب الحكمة والمعرفة والقدرة على الفصل في المنازعات بالعدل والإحسان، وتركوا لنا مجتمع تربطه وشائج القربى والمصاهـرة والوحدة الثقافية والمذهـبية واللغوية.
أما البعثات التي تلت ذلك بقيادة العلامة مفتي الديار الإرترية الشيخ إبراهـيم مختار الى مصر أو جيل الهـجرة الحديثة فتلك قصص أخرى ربما سنتناولهـا في الحلقات القادمة.
هـكذا هـم أهـلنا دائما نجوم ساطعة في الأرض تضاهـي نجوم السماء …🌱
أبو عبد الرحْمن